تم اختيار مدينة حلب عاصمة للثقافة الإسلامية في المنطقة العربية لعام 1427 هجري 2006 ميلادي بعد مكة المكرمة بناء على اقتراح رفع إلى مؤتمر وزراء الثقافة الإسلامية الثالث في الدوحة في 2002 وأقر في مؤتمر وزراء الثقافة الرابع الجزائر في ربيع 2004، بالتعاون مع منظمة الثقافة الإسلامية، وذلك لتوفر المعايير المعتمدة للاختيار من تراث عمراني ورصيد ثقافي وعلمي وفني ودور اقتصادي باعتبارها تمثل نموذجاً للمدن الإسلامية بعمارتها الإسلامية عبر العصور منذ دخول المسلمين إلى إليها عام 16 هجرية وحتى الآن مرورا بالعصر الأموي والعباسي بما فيه من فترات حمدانية وسلجوقية وزنكية وأيوبية ثم العصر المملوكي والعصر العثماني. كما اختيرت أصفهان الإيرانية عن آسيا، وتومبوكتو المالية عن أفريقيا للعام ذاته. وعن تسميتها تشير بعض المصادر إلى أن اسم حلب استند إلى معطيات أسطورية وأخرى أثرية ومن هذه المعطيات الأسطورية قول/الزجاجي الوارد في معجم البلدان لياقوت الحموي/ "سميت حلب لأن إبراهيم عليه السلام كان يحلب غنمه في الجمعات ويتصدق به فيقول الفقراء حلب.. أما المعطيات الأثرية فتقول إن اسم حلب تطور عبر العصور فكان/ يارموتي/ في حملة سرجون الأكادي و/أرمان / أيام الملك" فرام سن"و/حلابو/ عندما كانت عاصمة لمملكة يمحاض و/حالاب/ في نصوص مملكة الآلاخ و/حلبا-حلباس/ ايام الملك الحثي تلبينوس و/حلبا/ في الوثائق المصرية و/حلبا - خالمان/ في النصوص الآشورية. الأستاذ محمد قجة مدير الأمانة العامة للاحتفالية ورئيس جمعية العاديات يقول: "إذا كانت كلمة عاصمة ترتبط في الذهن بالمركز السياسي فهذا ليس دقيقاً، إذ لا يمكن اختصار بلد بكامله بمدينة واحدة. حلب عاصمة الثقافة تحمل على كاهلها عشرة آلاف سنة من عمر الزمان. إنها شيخة المدن... ولهذا نحن في الأمانة العامة للاحتفالية أعددنا برنامجاً يتناسب والمناسبة يتضمن ثماني ندوات علمية دولية على مدى عام 2006، ومئة وخمسون محاضرة، ونعمل على متابعة طباعة أكثر من مئة كتاب حول حلب والمناسبة، وننظم معارض للفن التشكيلي والضوئي والمخطوطات والوثائق والكنب والصناعات التقليدية، وهناك الكثير من الأمسيات الموسيقية والمسرحية إلى جانب حفل الإفتتاح الضخم والذي شهد إضافة للكلمات الرسمية عملاً مسرحياً من إخراج الفنان السوري ماهر صليبي سلط فيه الضوء على مدينة حلب وتاريخها الثقافي وقدم تعريفاً بأزيائها، ثقافتها، الشعر الذي احتوته واحتواها، وكان استعراضاً للمراحل التاريخية التي مرت بها حلب، سمعنا فيه الغناء الحلبي والإنشاد الديني".
تضم مدينة حلب تراثاً حضارياً كبيراً، يعود إلى مختلف العصور الإسلامية، ويتمثل في الآثار والمساجد والمدارس والأسبلة التاريخية والقلاع، ومن أهم القلاع على الإطلاق قلعة حلب التي تعد من كبرى قلاع العالم وأقدمها، وتقع وسط المدينة القديمة. السيد فوزي شعبوق مدير قلعة حلب منذ أكثر من ثلاثين عاما يقول: "إنها أضخم معلم إسلامي في المدينة ومرت عليها اثنتا عشرة حضارة وقد خربت أكثر من مرة وأعيد بناؤها وهي على هذا الشكل الذي نشاهدها عليه اليوم منذ عام 1902 ميلادي أيام حكم غازي بن صلاح الدين الأيوبي وتتميز بالمدخل الرئيسي الذي يأخذ شكل منبر المسجد وتتضمن حمامات ومساجد وأسواق وخزانات للمياه وقصر للملك وقد غادرها أهلها بعد زلزال عام 1822 ويتم الآن ترميمها" بمناسبة الاحتفالية تم افتتاح الجامع الأموي الكبير بعد الانتهاء من ترميمه وإعادة تأهيله، بناه الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، وهو واسع بصحنه ومصلاه وفيه ثلاثة أروقة محمولة على دعائم حجرية ضخمة ويضم الصحن الحوض الكبير المعد للوضوء، إما مئذنته فهي مربعة شأن المآذن الأموية طولها خمس وأربعون متراً وتزينها المقرنصات والكتابة الكوفية. البيت الحلبي جميل لساكنيه فقط البيت الحلبي القديم روعة في البناء والهندسة ويتألف عادة من طابقين الأرضي ويضم عدداً من الغرف التي تواجه الفسحة السماوية للدار، والعلوي الذي يحتوي على غرف أخرى تسمى" المربعات" ويصعد إليها عن طريق سلم حجري، وتعود أقدم البيوت الحلبية الموجودة حالياً إلى أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وتتمركز معظمها في الأحياء القديمة ووراء البوابات الضيقة المغلقة. يقول المهندس لامع كوراني المهتم بالعمارة الحلبية: "جمال البيت الحلبي القديم داخلي فقط، أما من الخارج فهو جدران مصمتة بما يتناسب مع الحياة الاجتماعية السائدة، وتتوزع ممراته الداخلية وغرفه لتؤمن الراحة لسكن أكثر من أسرة واحدة حيث يسكن جميع الأخوة مع عائلاتهم ولم تعرف البيوت الحلبية الواجهات الجميلة إلا بعد دخول النمط المعماري الأوروبي أثناء الاحتلال الفرنسي". خانات وحمامات وأطول سوق قديم لمدينة حلب تسعة أبواب بعضها مازال قائماً وهي باب قنسرين، المقام، النيرب، الأحمر، الحديد، النصر، الفرج، الجنان وباب إنطاكية. وهي تحيط بالمدينة القديمة التي تحتوي سوق حلب القديم الذي يعرف بسوق المدينة وهو مجموعة من الأسواق المتخصصة المتلاصقة متوازية ومتعامدة وتضم تسعة وثلاثين سوقاً، يختص كل سوق بنوع من البضائع ويحمل اسماً يتناسب مع هذا الاختصاص **وق العطارين والحبال والذهب والزرب، ويبلغ طول سوق المدينة حوالي أحد عشر كيلومتراً، ويعتبر من أجمل أسواق مدن الشرق العربي والإسلامي بما يمتاز به من طابع عمراني جميل حيث توفر سقوفه الضخمة جوا معتدلاً يحمي من حر الصيف وبرد الشتاء، وتفوح في السوق رائحة التوابل والعطور التي تشربتها أحجاره عبر مئات السنين. وكانت أسواق حلب مفتوحة للتجار من أنحاء العالم، ولهؤلاء الوافدين خانات مخصصة للإقامة تعادل اليوم الفنادق الفخمة ومن أهمها خان الوزير. ومن الخانات الأجمل والذي يستخدم اليوم **وق للمهن اليدوية "خان الشونة" يقول مدير السوق المهندس باسم الخطيب: "بني السوق في عهد والي حلب العثماني "خسرو باشا" عام 1548 ميلادي، ويتكون من قيساريتين متعامدتين تحتوي تسع وأربعون محلاً للحرف التراثية اليدوية كصناعة السلال والخيزران والبسط الشعبية والعباءات". وبجانب الخان يقوم حمام يلبغا الناصري وهو تحفة معمارية مذهلة وقد قال عنه أحد السلاطين "لو خيرت بين هدم القلعة أو الحمام لهدمت القلعة وأبقيت الحمام". وللحمام عند أهالي حلب طقوس وأدبيات ومظاهر اجتماعية متنوعة إضافة إلى بعض التقاليد والأعراف التي لابد من إتباعها حين ارتياد الحمام.
في بيت حلبي قديم يعود للعهد العثماني تقيم "بعثة الوكالة الألمانية للتعاون التقني" التي تعمل في إطار مشروع إحياء حلب القديمة بالتعاون مع برنامج دعم المدن التاريخية في مؤسسة الآغا خان الثقافية. المهندس "ماينوف سبيكرمان" المشرف على المشروع يتحدث عن الأهداف: "بعد عقود من الإهمال في القرن العشرين كانت المدينة مهددة بتدهور بنيتها الفيزيائية لذا كان لابد من العمل لحماية هذا الإرث الثقافي والعمراني الفريد، بتحسين آلية تطوير الاستدامة الذاتية في المدينة القديمة التي تحوي أوابد مصنفة فقدت وظيفتها وهي بحالة فيزيائية سيئة... إنها كنز كبير وعبئ ثقيل على المدينة مالياً".
علوم، فنون، آداب ومطبخ موسيقا شهدت حلب عصور ازدهار وتطور شملت مناحي الحياة كافة وتركت آثارها على نتاجها المادي وغير المادي الذي يشكل رافداً فاعلاً للحضارة الإنسانية بشكل عام والإسلامية منها بشكل خاص. الدكتور علاء الدين لولح مدير معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب والرئيس السابق للجمعية السورية لتاريخ العلوم يقول: "قدم علماء وأعلام حلب عبر التاريخ الكثير من القفزات العلمية والثقافية للإنسانية وكان لهم نصيب كبير في إثراء المكتبة العربية بنتاج أبحاثهم المتميزة محققين بذلك سبقاً معرفياً أضاء الطريق لمن أتى بعدهم ومنهم المتنبي والفارابي والأصفهاني وابن سلوم الحلبي وابن العديم وابن شداد وابن الشحنة... وغيرهم".
وتختزن حلب في ذاكرتها سجلات لأحداث تاريخية لأعلام جعلوا منها قبلة الزوار والمثقفين والعلماء والرحالة، فهي التي استقطبت ياقوت الحموي وابن جبير وابن بطوطة والمقدسي، وابن عربي والرومي وأرسطو ولامارتين وغيرهم ممن حطوا رحالهم فيها ليؤلفوا عنها كتابات ودراسات تعتبر اليوم وثائق تاريخية عن هذه المدينة العظيمة. يقول الأديب السوري المعروف وليد إخلاصي رئيس اللجنة الثقافية للاحتفالية: "لحلب قيمة غير القيمة التاريخية المذكورة في الكتب، ولو خيرت أنا لاخترت حلب عاصمة للثقافة الإسلامية قبل مكة المكرمة والسبب أن الإسلام بمعنى الثقافة هو احتواء لمجمل الثقافات الإنسانية بصيغتها الجديدة، وعندما كانت مكة قرية ضائعة في الصحراء كانت حلب محط لقاءٍ لعديد من الحضارات الإنسانية. حلب هي البدء الحضاري ومكة هي البدء الديني، والحضارة تسبق الدين عملياً، فالدين بدون وعاء حضاري يبقى مجرد شعائر، وإذا أصغينا إلى ما يسمى اليوم أذان الميت في حلب حيث لا نجد مثيلاً له في أي مدينة أخرى، لوجدنا لحنه مزيج سرياني وبيزنطي وإسلامي... حلب مطبخ عظيم تدخل إليه المواد المختلفة وتخرج منتجاً بنكهة حلبية لا يشبهه شيء في العالم". عندما يذكر اسم حلب عربياً على الأقل فإن أول ما يتبادر إلى الذهن الموسيقا والغناء والقدود الحلبية وهي أغنيات شعبية لا يعرف ناظمها أو ملحنها وأصل القدود من الأغنيات الدينية التي كانت تغنى في الحلقات والأذكار. ثم جاء من بدل كلماتها الدينية بكلمات غزلية، مع الحفاظ على اللحن كما هو. وشاعت الأغنيات الجديدة في الأفراح والأعراس. يقول فواز باقر المهتم والباحث في الموسيقا: "حلب معلقة موسيقياً على تقاطع محورين، المحور الأول هو محور استانبول القاهرة، والمحور الثاني هو محور إيران البحر المتوسط، لقد جاءتنا مقامات موسيقية بأسمائها التي هي أسماء مدن إيرانية كالأصفهان والنهوند والنيشابورغ. أما أن الموشح أندلسي فهذا وهم قومي طارئ، فالتوشيح قائم على تركيب الإيقاع على الكلمات وإضافة الحشوات. وفي حلب عموماً التراث الموسيقي الحلبي الحالي أساسه السهرة، حيث يعطي الحاضرون للمبدع طاقة معلقة في الهواء".
اجتمع لحلب من الأدباء والشعراء ما لم يتوفر إلا للقليل من المدن الأخرى، المتنبي والبحتري والمعري وأبو فراس الحمداني، والنحوي ابن خالويه، وابن جني الأول في فقه اللغة، وأبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب (الأغاني ) والصنوبري شاعر الطبيعة ثم وصولاً إلى المفكر التنويري عبد الرحمن الكواكبي والشاعر عمر أبو ريشة في العصر الحديث. الباحث الأدبي الدكتور عمر دقاق العميد السابق لكلية الآداب في جامعة حلب يقول: "لم يكن الكواكبي طفرة في تاريخ حلب، لقد كان نتاجاً طبيعياً للإرث الأدبي والفكري الذي تمثله هذه المدينة، وإن كان كتابه "طبائع الاستبداد" قد ظهر في القاهرة حيث توفرت له الحرية أكثر هناك، إلا أنه بدأ وتلقى كل تعليمه في حلب ولما ضيقت السلطات العثمانية عليه كثيراً اضطر للرحيل إلى القاهرة".
الفن التشكيلي الإسلامي كان حاضراً حضور مدينة حلب في التاريخ إلا أنه أيضاً وكباقي النتاج الإبداعي تأثر بالتاريخ الأعمق لهذه المدينة. الفنان التشكيلي البارز سعد يكن لم يكن غائباً بلوحاته المدهشة عن احتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية ولديه فكرة غاية في الانتماء لمدينته: "لطالما قدمت حلب للحركة الثقافية السورية والعربية والإسلامية مبدعين على المستوى الأدبي والفني والتشكيلي، وهناك الكثير من الأسماء الهامة والسبب هو صعوبة الظروف الحياتية في هذه المدينة، فكان مدعو الثقافة والإبداع يسقطون بسرعة، ولا يستمر سوى المرضى النفسيين المصابين بداء العطاء والمصابين بداء حب حلب... حاولنا في هذه الاحتفالية من خلال الفن التشكيلي تقديم صورة عن المدينة مشرقة إنسانياً وتشبهها... حلب أنثى جميلة تعيش في بقعة نائية من العالم، تدهش الزائر وتدهش السماء".
آنور الأرمنية تحتفي بمدينتها في أمسية موسيقية في المركز الثقافي العربي حضر العود وحضر البيانو وحضرت آنور الشابة الأرمنية المسيحية لتصدح بآلة الفلوت بطريقة بالغة العذوبة ولتحتفي بحلب عاصمة للثقافة الإسلامية. يقول الباحث الإسلامي الدكتور محمود عكام الأستاذ في كليتي الحقوق والتربية بجامعة حلب: "إن هذه المدينة نقطة تواصل فعال بين الشرق والغرب وهي مثال ناصع لتعايش الأديان والقوميات المختلفة، والمجتمع الحلبي المكون من هذه الفسيفساء يشكل أنموذجاً للمجتمع المتآلف المتسامح، وحلب لم تشهد خلال تاريخها الطويل ما يشبه تلك الفتن والحروب الدينية التي وقعت في أمكنة أخرى من العالم".
كان المطران يوحنا إبراهيم رئيس طائفة السريان الأرثوذ** يتابع محاضرة لباحث مسلم يستشهد بآيات من القرآن الكريم ويخطئ بالقراءة لفظاً ولغةً ونحواً، وراح يهز رأسه متبرماً من الأخطاء محاولاً تصحيحها. يقول المطران يوحنا إبراهيم: "لا ثقافة تأتي من الفراغ، وعندما جاء المسلمون إلى المدينة كانت المدارس الفكرية مزروعة في حلب وبشكل مكثف، وكان هناك نتاج فكري في مختلف المجالات وليس في مجال اللاهوت فقط. ولذا عندما تشكلت الثقافة الإسلامية فإنها اعتمدت على ما هو قائم وسابق وامتزجت اللغة العربية والسريانية لغة أهل حلب ما قبل الإسلام، وقد عمل السريان في العصر الأموي والعباسي بنقل العلوم عن طريق اللغة السريانية مما عمق التمازج المتميز الموجود اليوم في المدينة، والذي يأخذ الطابع الإسلامي ونحن نفتخر بأننا ساهمنا في بناء هذه الثقافة. فالتعددية الدينية في حلب شكلت مزهرية جميلة للثقافات". حلب مدينة أسس لحضارتها الحجر الذي أعطاها الديمومة والذي شكله أهلها جذراً لحضارتها عل شكل أوابد معمارية اكتنزت هذه الثقافة المتميزة. يقول وليد إخلاصي: "لو أن الاختيار لعاصمة الثقافة المسيحية لكانت حلب جديرة بالاختيار، لأنها في تاريخها كانت أحد مراكز نضوج الفكر المسيحي، وكذلك لو كنا نبحث عن عاصمة للثقافة اليهودية لكانت حلب أحد أهم الخيارات. إنها المدينة، الوعاء الذي احتوى الأديان السماوية. إنها حلب... مطبخ في التاريخ البشري".
bhooralhb المشرف العام
عدد الرسائل : 63 تاريخ التسجيل : 09/01/2008
موضوع: رد: حلب: عاصمة الثقافة الإسلامية الخميس فبراير 28, 2008 5:51 am